لصوص الدين
صفحة 1 من اصل 1
لصوص الدين
لصوص الدين
يقال إن لكل شيء لصوصاً فللوقت لصوص كما للمال، وللقلب سُرَّاق كما للدين قطاع طرق، ولكن معرفة اللص من الشريف والصادق من المدعي، والمتاجر بآيات الله من المخبت الأواب ليس أمراً يسيراً، هي ملكةٌ يتصف بها أشخاص روضوا أنفسهم ثم لازمتهم كالصِّفة لأنهم كما يقال ينظرون بنور الله، لهذا لا تجد البطالين أكثر خوفاً منهم حين يجمعهم سقف مع واحد من أولئك الأصفياء، يوجسون منهم خيفة وتختنق أنفاسهم وتطول أنوفهم وتصبح آذانهم شفافة وتزرق ألسنتهم التي استمرأت الكذب والخداع وأكل أموال الناس بالباطل، وما إن يفارقوا ذلك المكان ويولوا الأدبار وينخرطوا بين أتباعهم السذج حتى تعود إليهم صورهم الخادعة ونضارتهم الزائفة.
يلجأ المزارعون لمكافحة الحشرات الضارة التي تؤذي المحاصيل وتتلفها إلى طريقة أكثر نجاعة وأماناً وأقل تكلفة من المبيدات وهي المكافحة الحيوية، حيوان أو زاحف أو حشرة تتكفل بالقضاء على المضر وتهلك المفسد وتزيل أثره، وهكذا يصنع المستنيرون بأهل الظلمة والمتبتلون بتجار الدين، وكلما قل عدد هؤلاء العارفين كثرت الضباع وعاثت فساداً، ولكن هذه العملة النادرة من الناس هي اليوم في تناقص واضمحلال.
لسنوات طويلة شَغفتء قلبي شخوص المعتكفين الذين يلزمون سواري الحرمين ركعاً سجداً منذ غروب الشمس وحتى الهزيع الأخير من الليل وفي سويعات الضحى يرشفون رحيق عشقهم ويتدثرون بألطاف الحبيب قريباً من الكعبة أو خلف المقام. كنت سويعاتٍ أسترق السمع وأصغي إليهم وهم يهمهمون ويريقون دموع التضرع وينفثون تباريحهم وأوصابهم التي كتموها ودفنوها بين جوانحهم، مرة قال لي واحد منهم وهو شاب دون الأربعين: إن في المسجد الحرام شيوخاً لم يفارقوه منذ ثلاثين عاماً قدموا من شرق آسيا ومن القوقاز بعد أن عقدوا عزمهم وودعوا أحبابهم وذات ليلة باردة شدوا الرحال مهاجرين إلى مهبط الوحي ليفنوا الباقي من أعمارهم في مكة أو في طيبة حيث رسم للرسول ومعهدُ.
في مسجد عيسى جنوب بريدة كان إبراهيم القرعاوي يندي الرمل الذي يعفر فيه وجهه، كنا نعرف مصلاه بعد انفضاض المصلين، ليس عليك إلا أن تبحث في روضة المسجد خلف الإمام موضع ثلاثة عن يساره أومثلهم عن يمينه، هناك دائما بقعة مبللة بالماء، كانت تلك دموعه التي روَّى بها الأرض، كان يهمس همساً يلتقطه كل من حوله، أحيانا أميزه بين الصف وهو ساجد قبل الإقامة لأنه كان يرتجف وتنوء أشواقه بجسده المدنف، وما أكثر ماسمعت كلماته الوجلة وأنا على بعد خطوات منه. قال لي حفيده: سافرت معه بالسيارة إلى العمرة فكان يأمرني بالوقوف كل ساعتين فيجدد وضوءه ثم يعمد إلى الصلاة في ظل شجرة أو ناحية من الصحراء في ظلمة الليل، ولاتهدأ روحه حتى يرى أستار الكعبة.
كنت أعجب كيف لمثل هؤلاء أن يحتملوا العيش، فقلوبهم منكسرة وأحزانهم لا تنقضي، حتى جاء اليوم الذي انكشفت لي فيه حقيقة القوم، لم يكن ذلك حزناً، هو غبطة وسلوى، كان غسيلا لقلوبهم ونسيماً باردًا يهدهد أرواحهم المستوحشة من كل ماحولهم.
قال لي صديق قديم من آل الحصان: شكا جدي مرة جدتي إلى فقيه الشماسية ضيف الله اليوسف وقال: إنها خير النساء ولكنها لاتلقي لي بالاً حين يأتيني الضيوف وهي تصلي الضحى، إنها تستمر في صلاتها حتى تنهيها والضيف ينتظر، وطاعتي أولى من نافلة الضحى، فتلطف معها الشيخ ونقل إليها ظُلامة زوجها، فقالت له "عندما أكبِّر تكبيرة الإحرام أرى كوة من النور تفتح لي من السماء، وتغشاني هالته وتغمرني تهاويله، فكيف لي بأن أسمع نداء زوجي؟ ولو سمعته لاستجبت له" فلزم جدي الصمت وتركها لعشقها السماوي، وبعد موتها عاش تسعين ليلة محطم القلب، كان يأوي كل يوم إلى غرفته، فيندس منعزلاً ويبكي حرقة على فراقها حتى لفظ أنفاسه.
درست سنتين على عبدالله الدويش وهو عالم زاهد توفي قبل أن يبلغ الأربعين، رأى يوماً طالباً ناهز الثالثة عشرة وهو ينفث الدخان من فمه خارج أسوار المدرسة الدينية الأهلية ببريدة، فأبلغ مدير المدرسة فاستدعى المشرف الطالب وقام بضربه مكتفياً بشهادة الشيخ ولكن الغلام أنكر ذلك وفر هارباً من المدرسة وهو يدعو على من ظلمه، أخذ الدويش ليالي لم يهدأ له بال، أزعجه الأرق وآلمه أن يكون قد تراءى لعينيه مالم يكن فظلم الفتى، فطلب من أحد تلاميذه أن يدله على بيت الصبي وزاره في بيت والده في اللابدية شرق بريدة، وقال له بعد أن قبل رأسه "سامحني لقد أخطأت في حقك وشهدتُ بما لست مستيقنا منه" وبعد أيام شوهد الطالب وهو ينفث الدخان من سيجارته.
لم يكن الدويش يحمل رخصة قيادة وفي أسبوع المرور صادفته نقطة تفتيش فشحنوه مع المخالفين إلى التوقيف ومضى عليه نصف يوم وهو صامت، لم يقل لهم إن كثيراً من أئمة وخطباء بريدة من تلاميذه ولم يقدم نفسه كعالم دين عليهم أن يوقروه ومن واجبهم عدم التعرض له بل انشغل بقراءة القرآن والصلاة، وبعد أن قام طلابه وأحد أساتذته بالبحث عنه لساعات جاءهم الخبر، فتوجهوا إلى مكتب مدير المرور وشرحوا له الحال عاتبين عليهم احتجازه، فأوضح لهم أن صاحبهم لم ينطق بكلمة واحدة ولم يكشف عن حاله.
"تعوذوا بالله من ذنوب الخلوات" هكذا كان الشيخ يردد، وذات ضحى وبعض من تلاميذه متحلقون حوله التفت إليهم وقال لهم ومقلتاه تدمعان "آه.. إن القلوب قاسية، استعيذوا بالله من أمراضها"، وبقي بعدها قرابة الشهر وهو سقيم في فراشه. كان لورعه يتحاشى أن يمر بطريق شُق فوق عقار لم يكن صاحبه راضياً بالتنازل عنه وقبول التثمين. وقبيل وفاته وبعد رحيله كان الجدل بين مريديه عن نسكه وعن صيامه وصلاته، لم يكن معظم من حوله وبعضٌ مِن أقرب تلاميذه يعلمون أنه كان يصوم يوماً ويفطر آخر حتى لقي ربه. لمحتُه مرة قبل وفاته بشهور بعد أذان المغرب وقد تريث قليلاً ثم نهض فمال على البرادة واختطف رشفة من الماء ثم أخذ مكانه في الصف.
كان معتق الحربي يحكي قصة كالحُلءم، أنه كان يرعى غنيمات له في بادية حائل فعصفت الريح ذات يوم وحملته كالقشة وألقته عند الجامع الكبير في بريدة، نفض ثيابه ونهض. لم يفكر بالعودة إلى مرابعه، بل قنع بقدره ومنتهى حاله واستوطن أرضه الجديدة وعاش طوال عمره مخبتاً قانعاً، كنت أرى الصفاء والاحتشام والأدب الرفيع في أبنائه وأحفاده. بعض منهم يقنعه منك بأن تقسم له بالله ليكذِّب مارآه بعينيه وسمع بأذنيه.
كان واحد من شيوخي يجتاز خافض الرأس كل ضحى بسوق الذهب وقبة رشيد في طريقه إلى الجامع الكبير ليلقي درسه، وبين المتسوقات من النسوة والصبايا يمر كالطيف حتى يقف على عتبة المسجد فيرفع رأسه، مرة تشجع أحدهم وألمح إليه بأنه لايليق بمثله أن يجتاز بسوق للشيطان فيه حظ ومرتع فقال: إنني من حين أخرج من بيتي حتى أعود وأنا مطأطئ الرأس تقودني خطاي نحو غايتي ثم أعود أدراجي من دون أن أرى ماتذكره. لقد كان صادقاً في كل كلمة قالها.
لم ترسل له الفتيات الورودَ الحمراء ولم يقضِ ساعتين كل يوم أمام المرآة يسرح لحيته عسى أن يفتح الله على يديه قلوب الغافلات من إمائه. ولم يتباه بوسامته في المجلات النسائية.
لهذا كان هؤلاء الأتقياء يقرؤون كثيراً في كتب التصوف وسير المتنسكين وأحوالِ القلوب ويقضي الواحد منهم وقته بين طلب الرزق من كسب يده أوفي شؤون أبنائه وبين الكتب ودروس العلم أوتراه قائماً يصلي في محرابه، وتراهم ينفرون من الكتب والمحاضرات التي تخلط الدين بالسياسة، وتعجن الوعظ بمطامح الملك والزعامة.
كان لصديقي عبدالله بيت تحت الإنشاء وكان يمر بمنزله كل يوم يطمئن على سير البناء ويتفقد الاحتياجات، ولكنه توقف فجأة عن جولته اليومية بعد أن تلقى توبيخاً من أحدهم لأن عمال البناء تسببوا بإزعاج المصلين في صلاة العصر ولم يجيبوا النداء، بقي على هذه الحال شهرين حتى هدأت نفسه وخفت آلامه.
قضيت أعواماً وأنا أسمع بكاء أمي في مصلاها قبل الفجر بساعة أو قبل أن تأوي إلى فراشها، كانت تسح دمعاً كثيراً كل ليلة، لقد بكت أكثر من ألف ليلة وهي اليوم تنشج كسابق عهدها كما كانت أمها من قبلها، أعرف ذلك منها لأنني أجده في صوتها رغم بعدي عنها، كانت تختنق بكلماتها المتحشرجة وهي في مصلاها وكنت أصغي إليها بحزن، وإذا لمحتني واقفاً وهي تتهيأ للهجوع أو لتسترخي قبل طلوع الفجر تقول: إنني أعرفه جيداً. إنه لم يخذلني يوماً. أنا أعرفه. إنه حبيبي.
أحب المخبتين ولست منهم، ولقد قضيت سنوات وأنا أتلمس أخبارهم وأتقفر أحوالهم، فما رأيت أكثر ندرة منهم وأقل ظهوراً للملأ وعلى وسائل الإعلام وأبعد عن الزعامة، وأرق قلوباً وأكثر زهداً في أموال الآخرين وحذراً من الولوغ في أعراض الناس ودمائهم. كتب أحد الأتقياء يوماً لصديق له انحرف عن جادة الطريق:
ياجاعل الدين له بازياً
يصطاد به أموال المساكين
في عالم يزداد تديناً وفقراً وتلوح أمام الملايين من المساكين المؤمنين أشباح المجاعات والفاقة، فإنه من الخير للناس وللحكومات أن يكون الأتقياء الأخفياء المتصوفون الزهاد هم القدوات والملهمون، وليس لصوص الدين وقطاع الطرق الذين تشكو الأرض كذبهم وتجأر السماء من دنسهم.
* نقلا عن صحيفة "الرياض" السعودية
يقال إن لكل شيء لصوصاً فللوقت لصوص كما للمال، وللقلب سُرَّاق كما للدين قطاع طرق، ولكن معرفة اللص من الشريف والصادق من المدعي، والمتاجر بآيات الله من المخبت الأواب ليس أمراً يسيراً، هي ملكةٌ يتصف بها أشخاص روضوا أنفسهم ثم لازمتهم كالصِّفة لأنهم كما يقال ينظرون بنور الله، لهذا لا تجد البطالين أكثر خوفاً منهم حين يجمعهم سقف مع واحد من أولئك الأصفياء، يوجسون منهم خيفة وتختنق أنفاسهم وتطول أنوفهم وتصبح آذانهم شفافة وتزرق ألسنتهم التي استمرأت الكذب والخداع وأكل أموال الناس بالباطل، وما إن يفارقوا ذلك المكان ويولوا الأدبار وينخرطوا بين أتباعهم السذج حتى تعود إليهم صورهم الخادعة ونضارتهم الزائفة.
يلجأ المزارعون لمكافحة الحشرات الضارة التي تؤذي المحاصيل وتتلفها إلى طريقة أكثر نجاعة وأماناً وأقل تكلفة من المبيدات وهي المكافحة الحيوية، حيوان أو زاحف أو حشرة تتكفل بالقضاء على المضر وتهلك المفسد وتزيل أثره، وهكذا يصنع المستنيرون بأهل الظلمة والمتبتلون بتجار الدين، وكلما قل عدد هؤلاء العارفين كثرت الضباع وعاثت فساداً، ولكن هذه العملة النادرة من الناس هي اليوم في تناقص واضمحلال.
لسنوات طويلة شَغفتء قلبي شخوص المعتكفين الذين يلزمون سواري الحرمين ركعاً سجداً منذ غروب الشمس وحتى الهزيع الأخير من الليل وفي سويعات الضحى يرشفون رحيق عشقهم ويتدثرون بألطاف الحبيب قريباً من الكعبة أو خلف المقام. كنت سويعاتٍ أسترق السمع وأصغي إليهم وهم يهمهمون ويريقون دموع التضرع وينفثون تباريحهم وأوصابهم التي كتموها ودفنوها بين جوانحهم، مرة قال لي واحد منهم وهو شاب دون الأربعين: إن في المسجد الحرام شيوخاً لم يفارقوه منذ ثلاثين عاماً قدموا من شرق آسيا ومن القوقاز بعد أن عقدوا عزمهم وودعوا أحبابهم وذات ليلة باردة شدوا الرحال مهاجرين إلى مهبط الوحي ليفنوا الباقي من أعمارهم في مكة أو في طيبة حيث رسم للرسول ومعهدُ.
في مسجد عيسى جنوب بريدة كان إبراهيم القرعاوي يندي الرمل الذي يعفر فيه وجهه، كنا نعرف مصلاه بعد انفضاض المصلين، ليس عليك إلا أن تبحث في روضة المسجد خلف الإمام موضع ثلاثة عن يساره أومثلهم عن يمينه، هناك دائما بقعة مبللة بالماء، كانت تلك دموعه التي روَّى بها الأرض، كان يهمس همساً يلتقطه كل من حوله، أحيانا أميزه بين الصف وهو ساجد قبل الإقامة لأنه كان يرتجف وتنوء أشواقه بجسده المدنف، وما أكثر ماسمعت كلماته الوجلة وأنا على بعد خطوات منه. قال لي حفيده: سافرت معه بالسيارة إلى العمرة فكان يأمرني بالوقوف كل ساعتين فيجدد وضوءه ثم يعمد إلى الصلاة في ظل شجرة أو ناحية من الصحراء في ظلمة الليل، ولاتهدأ روحه حتى يرى أستار الكعبة.
كنت أعجب كيف لمثل هؤلاء أن يحتملوا العيش، فقلوبهم منكسرة وأحزانهم لا تنقضي، حتى جاء اليوم الذي انكشفت لي فيه حقيقة القوم، لم يكن ذلك حزناً، هو غبطة وسلوى، كان غسيلا لقلوبهم ونسيماً باردًا يهدهد أرواحهم المستوحشة من كل ماحولهم.
قال لي صديق قديم من آل الحصان: شكا جدي مرة جدتي إلى فقيه الشماسية ضيف الله اليوسف وقال: إنها خير النساء ولكنها لاتلقي لي بالاً حين يأتيني الضيوف وهي تصلي الضحى، إنها تستمر في صلاتها حتى تنهيها والضيف ينتظر، وطاعتي أولى من نافلة الضحى، فتلطف معها الشيخ ونقل إليها ظُلامة زوجها، فقالت له "عندما أكبِّر تكبيرة الإحرام أرى كوة من النور تفتح لي من السماء، وتغشاني هالته وتغمرني تهاويله، فكيف لي بأن أسمع نداء زوجي؟ ولو سمعته لاستجبت له" فلزم جدي الصمت وتركها لعشقها السماوي، وبعد موتها عاش تسعين ليلة محطم القلب، كان يأوي كل يوم إلى غرفته، فيندس منعزلاً ويبكي حرقة على فراقها حتى لفظ أنفاسه.
درست سنتين على عبدالله الدويش وهو عالم زاهد توفي قبل أن يبلغ الأربعين، رأى يوماً طالباً ناهز الثالثة عشرة وهو ينفث الدخان من فمه خارج أسوار المدرسة الدينية الأهلية ببريدة، فأبلغ مدير المدرسة فاستدعى المشرف الطالب وقام بضربه مكتفياً بشهادة الشيخ ولكن الغلام أنكر ذلك وفر هارباً من المدرسة وهو يدعو على من ظلمه، أخذ الدويش ليالي لم يهدأ له بال، أزعجه الأرق وآلمه أن يكون قد تراءى لعينيه مالم يكن فظلم الفتى، فطلب من أحد تلاميذه أن يدله على بيت الصبي وزاره في بيت والده في اللابدية شرق بريدة، وقال له بعد أن قبل رأسه "سامحني لقد أخطأت في حقك وشهدتُ بما لست مستيقنا منه" وبعد أيام شوهد الطالب وهو ينفث الدخان من سيجارته.
لم يكن الدويش يحمل رخصة قيادة وفي أسبوع المرور صادفته نقطة تفتيش فشحنوه مع المخالفين إلى التوقيف ومضى عليه نصف يوم وهو صامت، لم يقل لهم إن كثيراً من أئمة وخطباء بريدة من تلاميذه ولم يقدم نفسه كعالم دين عليهم أن يوقروه ومن واجبهم عدم التعرض له بل انشغل بقراءة القرآن والصلاة، وبعد أن قام طلابه وأحد أساتذته بالبحث عنه لساعات جاءهم الخبر، فتوجهوا إلى مكتب مدير المرور وشرحوا له الحال عاتبين عليهم احتجازه، فأوضح لهم أن صاحبهم لم ينطق بكلمة واحدة ولم يكشف عن حاله.
"تعوذوا بالله من ذنوب الخلوات" هكذا كان الشيخ يردد، وذات ضحى وبعض من تلاميذه متحلقون حوله التفت إليهم وقال لهم ومقلتاه تدمعان "آه.. إن القلوب قاسية، استعيذوا بالله من أمراضها"، وبقي بعدها قرابة الشهر وهو سقيم في فراشه. كان لورعه يتحاشى أن يمر بطريق شُق فوق عقار لم يكن صاحبه راضياً بالتنازل عنه وقبول التثمين. وقبيل وفاته وبعد رحيله كان الجدل بين مريديه عن نسكه وعن صيامه وصلاته، لم يكن معظم من حوله وبعضٌ مِن أقرب تلاميذه يعلمون أنه كان يصوم يوماً ويفطر آخر حتى لقي ربه. لمحتُه مرة قبل وفاته بشهور بعد أذان المغرب وقد تريث قليلاً ثم نهض فمال على البرادة واختطف رشفة من الماء ثم أخذ مكانه في الصف.
كان معتق الحربي يحكي قصة كالحُلءم، أنه كان يرعى غنيمات له في بادية حائل فعصفت الريح ذات يوم وحملته كالقشة وألقته عند الجامع الكبير في بريدة، نفض ثيابه ونهض. لم يفكر بالعودة إلى مرابعه، بل قنع بقدره ومنتهى حاله واستوطن أرضه الجديدة وعاش طوال عمره مخبتاً قانعاً، كنت أرى الصفاء والاحتشام والأدب الرفيع في أبنائه وأحفاده. بعض منهم يقنعه منك بأن تقسم له بالله ليكذِّب مارآه بعينيه وسمع بأذنيه.
كان واحد من شيوخي يجتاز خافض الرأس كل ضحى بسوق الذهب وقبة رشيد في طريقه إلى الجامع الكبير ليلقي درسه، وبين المتسوقات من النسوة والصبايا يمر كالطيف حتى يقف على عتبة المسجد فيرفع رأسه، مرة تشجع أحدهم وألمح إليه بأنه لايليق بمثله أن يجتاز بسوق للشيطان فيه حظ ومرتع فقال: إنني من حين أخرج من بيتي حتى أعود وأنا مطأطئ الرأس تقودني خطاي نحو غايتي ثم أعود أدراجي من دون أن أرى ماتذكره. لقد كان صادقاً في كل كلمة قالها.
لم ترسل له الفتيات الورودَ الحمراء ولم يقضِ ساعتين كل يوم أمام المرآة يسرح لحيته عسى أن يفتح الله على يديه قلوب الغافلات من إمائه. ولم يتباه بوسامته في المجلات النسائية.
لهذا كان هؤلاء الأتقياء يقرؤون كثيراً في كتب التصوف وسير المتنسكين وأحوالِ القلوب ويقضي الواحد منهم وقته بين طلب الرزق من كسب يده أوفي شؤون أبنائه وبين الكتب ودروس العلم أوتراه قائماً يصلي في محرابه، وتراهم ينفرون من الكتب والمحاضرات التي تخلط الدين بالسياسة، وتعجن الوعظ بمطامح الملك والزعامة.
كان لصديقي عبدالله بيت تحت الإنشاء وكان يمر بمنزله كل يوم يطمئن على سير البناء ويتفقد الاحتياجات، ولكنه توقف فجأة عن جولته اليومية بعد أن تلقى توبيخاً من أحدهم لأن عمال البناء تسببوا بإزعاج المصلين في صلاة العصر ولم يجيبوا النداء، بقي على هذه الحال شهرين حتى هدأت نفسه وخفت آلامه.
قضيت أعواماً وأنا أسمع بكاء أمي في مصلاها قبل الفجر بساعة أو قبل أن تأوي إلى فراشها، كانت تسح دمعاً كثيراً كل ليلة، لقد بكت أكثر من ألف ليلة وهي اليوم تنشج كسابق عهدها كما كانت أمها من قبلها، أعرف ذلك منها لأنني أجده في صوتها رغم بعدي عنها، كانت تختنق بكلماتها المتحشرجة وهي في مصلاها وكنت أصغي إليها بحزن، وإذا لمحتني واقفاً وهي تتهيأ للهجوع أو لتسترخي قبل طلوع الفجر تقول: إنني أعرفه جيداً. إنه لم يخذلني يوماً. أنا أعرفه. إنه حبيبي.
أحب المخبتين ولست منهم، ولقد قضيت سنوات وأنا أتلمس أخبارهم وأتقفر أحوالهم، فما رأيت أكثر ندرة منهم وأقل ظهوراً للملأ وعلى وسائل الإعلام وأبعد عن الزعامة، وأرق قلوباً وأكثر زهداً في أموال الآخرين وحذراً من الولوغ في أعراض الناس ودمائهم. كتب أحد الأتقياء يوماً لصديق له انحرف عن جادة الطريق:
ياجاعل الدين له بازياً
يصطاد به أموال المساكين
في عالم يزداد تديناً وفقراً وتلوح أمام الملايين من المساكين المؤمنين أشباح المجاعات والفاقة، فإنه من الخير للناس وللحكومات أن يكون الأتقياء الأخفياء المتصوفون الزهاد هم القدوات والملهمون، وليس لصوص الدين وقطاع الطرق الذين تشكو الأرض كذبهم وتجأر السماء من دنسهم.
* نقلا عن صحيفة "الرياض" السعودية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى